وتتشللي (1444- 1510)
لم يكن ساندرو بوتتشللي Botticelli يعنى بالجمال السطحي العابر، ولم يحاول أن يضفي الجاذبية على صوره، ونادراً ما كان يأخذ نفسه بمراعاة الانضباط وفق ما كان مألوفاً من تقاليد في فن التصوير، وكذا لم يحرص على أن تبلغ ألوانه غايتها جودة، ولم يكن موفّقاً كل التوفيق في اختيار أنماطه، ومع هذا كله جاءت تصاويره تعبيراً صادقاً عن أحاسيس حادة تبلغ مبلغها من النفوس تأثيراً. تُرى ماذا تخفي صوره من أسرار قد تدفع إلى الإعجاب كما تدفع إلى الاستنكار؟ لعلنا نعزو هذا السر الغامض إلى أنه لم يكن ثمّة فنان سبقه أو عاصره ولحقه أوتي ما أوتي ساندرو من قلّة مبالاة بمحاكاة الواقع في سبيل أن يضفي على الصورة ما يجعلها جذّابة شائقة. ولقد كانت حياته الأولى في ظل المدرسة الطبيعية في التصوير تحمله على الغلو في محاكاة الواقع غلوّاً يكاد ينكر معه ذاته، كما جنح به تتلمذه على يد فرا فيليبو ليبي إلى تمثّل الجانب الروحي في تصاويره للحياة اليومية، وكان بما طُبِع عليه من إحساس بالدلالات له أثره في التعبير عنها. ولكنه ما إن بلغ نضجه حتى اطرح جانباً هذا كله، ووقف نفسه على إبراز القيم التي تبث الحياة في الصورة. وهؤلاء الذين لا يعنون إلا بما تنطوي عليه اللوحة المصورة من محاكاة، هم بين مشدوه بأنماط بوتتشللي المكررة غير المألوفة وبما تنبض به أشكاله من إحساس، وبين عازف عنها غير راغب فيها. أما أولئك الذين يملكون مخيّلة تنجذب إلى القيم اللمسية وحركات الأجسام فهم لا يجدون مثله مع أي فنان آخر، لما تجمع من قوة خارقة تمزج بين القيم اللمسية وبين القيم الحركية. فنحن إذا أنعمنا النظر في اللوحة التي تمثل فينوس وقد انحسرت عنها مياه البحر هاجت ما فينا من مخيلة لمسية، إذ نجد الصورة تنبض بحياة متدفّقة تكاد تحسّها نفوسنا فتنبض هي الأخرى بتلك الحياة وتسري فيها سريان هزّات الموسيقى، أو قد تفوق هذا أثراً. فضفائر شعر الإلهة التي تضطرب مع هبّات الريح اضطراباً متسقاً غير مختل تحسّ فيها مقاومتها للريح حيناً ثم ما تلبث أن تسترخي بعده وتفتر، فتمثل هذه الحركة ما في الحياة من نبض وسكون حق التمثيل. وتضم اللوحة في مجموعها ما يهيج مخيلتنا اللمسية والحركية، فكم تستخفنا هبّات النسيم المنعشة وحركة الموج في اضطرابه التي أبدت في تصويرها بوتتشللي واستهوى بها الألباب.
وقد يكون في موضوعاته مستوحياً الخيال كما نرى في لوحته "الربيع"، أو مستلهماً روحانيته كما نرى في لوحة "تتويج السيدة العذراء" أو "ميلاد المسيح"، أو "إجلال الرعاة للمسيح الطفل"، أو لوحة عودة جوديث برأس هولوفرنيس بعد أن ذبحته (لوحة 265)، كما قد نراه مستملياً من نزعة سياسية كما نرى في لوحته "منيرفا تروّض القنطور"، كما قد يكون فيما يرسم رامزاً لشيء تكنّه نفسه كما نرى في صورة الجدارية من فيلا ليمي المحفوظة بمتحف اللوفر، أو متمثلاً جانباً خلقياً كما نرى في لوحة "الافتراء". وعلى أية حال سواء أكان الموضوع الذي يتناوله تجريدياً أو واقعياً فلا يخلو على الحالين من أن يكون لافتاً لحسّنا اللمسي والحركي.
وقد نراه يجنح أحياناً في موضوعاته إلى ناحية بعيدة كل البعد عن الخيال الفنّي، وإذا هو يحيله إلى عمل فني رائع مضيفاً إليه أغلى ما يملك من قيم لمسية وحركية غير مطّرح حتى تلك الأشياء التي تعدّ من الرمز الهيّن. وتمثّل لوحة "منيرفا بالاس تروّض القنطور" (لوحة 262) التي رُسمت هي ولوحة "الربيع" لتزيين فيلا مديتشي في رأي برينسون حكمة عصر النهضة وقد هزمت فوضى الماضي، أو انتصار المعرفة على الجهل في رأي جامبا، أو رجوع لورنزو مديتشي ظافراً من رحلته إلى نابلي بعد أن أعاد السلام إلى ربوع إيطاليا في رأي البعض الآخر الذي يستدل على ذلك من وجود الكرات الثلاث الرامزة لرنك أسرة مديتشي وأغصان الزيتون التي توشّي ثوب منيرفا فضلاً عن إكليل الغار الذي تعتمر به. ونحن إذا أنعمنا النظر في القنطور نجد لأول وهلة أن بوتتشللي لم يدّخر جهداً في أن يفرغ عليه ما يملك من موهبة، فتبدو الخطوط والتجاويف والمحدّبات في الجذع والجانبين مثيرة الإثارة كلها لحسنا اللمسي، وإذا نحن أمامها وكأنّ أناملنا تتحسس أجزاء جسده كلها. ونرى الوجه يكاد ينبثق عن واقعة تبعث فينا الرضا، فلكل خط من تلك الخطوط المحددة للحاجبين والأنف والوجنتين وظيفته السوية. وتبدو الخطوط الحاكية لشعره نابضة بالحياة وكأنها خطوط من نار متأجّجة، ثم هي على هذا طيّعة لتشكيل المصوّر. والصورة في مجموعها معبّرة عن عشق الفنان لما صوّر، ولسان حالها يكاد ينطق بما للفنان عليها من منّة وفضل.
حقّاً إن بوتتشللي لم يُعن كثيراً بذاتية الموضوع المصوّر ولا بالمحاكاة، فقد كان يملي عن خلجات يلتزمها في التعبير عن القيم اللمسية والحركية غير ملتفت إلى غيرها. فلن نجد في فن بوتتشللي ما هو في مجموعه محاكاة للواقع بل ما هو فيه محاكاة للقيم الجمالية مطّرحاً جانباً ذاتية الموضوع الذي بين يديه، فلقد كان يخضع لشاعرية تجاوز محاكاة الواقع. وإذا كان ثمّة فن تشكّله مثل هذه العناصر الجوهرية فهو فن علاقته بمحاكاة الواقع كعلاقة الموسيقى بالكلام المنغّم. وثمّة لهذا الفن نظائر بين أيدينا هي تلك التي تتمثل في الزخرفة الخطية ، وإذا صح أن لبوتتشللي في هذا الفن الرفيع نظراء في الصين واليابان وغيرهما من بلاد الشرق فإننا نفتقد هؤلاء النظراء في موطنه الأوربي. ولم تكن المحاكاة عند بوتتشللي تزيد عن التأثر بعنوان الموضوع لا محتوياته، وكان أكثر ما يوفّق حين يفصح عن موضوعه بما يدعونه "سيمفونية الخطوط" التي تسود جميع العناصر المكوّنة للوحة فتتحول القيم اللمسية إلى قيم حركية. ومن أجل هذا كان بوتتشللي يحجب الخلفيات حجباً كاملاً أو يخفف منها شيئاً حتى لا تنجذب العين إلى أعماق الصورة، وحتى تنطلق لها المتعة في تأمل الإيقاعات الخطية، فخطوط بوتتشللي في أشكاله تكاد تحسبها من فرط إيقاعها الغنائي وحساسيتها تصويراً صينياً مباشراً بلمسات الفرشاة Brushwork. وكذلك كانت حاله مع الألوان، فقد كان يتجنب أن تكون محاكية للواقع، ولذا جعلها بدورها خاضعة للتصميم الخطي حتى تؤدي هي الأخرى دوراً في لفت الأنظار إلى الخطوط لا إلى غيرها. وبهذا كان بوتتشللي في طليعة الفنانين الذين أنجبتهم أوروبا قدرة على التصميمات الخطية، وكان من جاء بعده هو وليوناردو وميكلانجلو مقلدين لم يتركوا من بعدهم خلفاً. فقد كان تجسيم الدلالات المادية والروحية على نحو أسمى مما فعله ليوناردو أمراً يتطلب فناناً أعمق إحساساً بهذه الدلالات من ليوناردو، وكذا كان استنطاق النغمات الموسيقية من التصميمات الخطية على نحو أرفع مما فعله بوتتشللي يستلزم هو الآخر فنّاناً ينطوي على إحساس أعمق يجسّد به همسات اللمس والحركة.
ويكشف لنا بوتتشللي في لوحة "إجلال الرعاة للمسيح الطفل" (لوحة 263 أ، ب) التي جاءت على غرار لوحات جوتزولي عن أفراد أسرة مديتشي وعن روح المهرجانات الصاخبة بوضوح وجلاء، وقد أملت هذه اللوحة ما وهب بوتتشللي من أستاذية في فن التكوين . وثمّة شخصيتان في الصورة لا شك في أن إحداهما تمثل كوزيمو راكعاً عند قدمي يسوع الطفل، والثانية تمثل بوتتشللي نفسه واقفاً إلى أقصى اليمين من أمامية اللوحة. وإلى المؤرخ فاساري المعاصر للفنان يرجع الفضل في تعريفنا بشخصيتين أخريين راكعتين هما بييترو وجوفاني ولدي كوزيمو. ويبدو أن الفتى الوسيم الذي يئتزر بإزار من المخمل الأسود هو جوليانو الشقيق الأصغر للورنزو العظيم، كما قد يكون الشاب الواقف في الطرف الأيمن من الصورة متكئاً على سيفه هو لورنزو نفسه. وجاء ما أضافه بوتتشللي من تلوين مشرق جذّاب غاية في التعمّق والتناغم، تتدرج صبغاته من الزرقة السماوية الصافية كما تبدو في رداء العذراء إلى الأخضر الداكن المحلّى بالتطريز القصبي كما يبدو في حلّة كوزيمو. كذا الألوان من الأحمر القرمزي الموشّى بالفراء كما يبدو في العباءة التي يتلفع بها بييترو الراكع إلى البرتقالي الزاهي الذي يبدو في عباءة بوتتشللي. ولا يفوتنا ما تبدو عليه الأطلال في أقصى اليسار من خلفية اللوحة من لمسة كلاسيكية رومانية. وإن كان بوتتشللي لم يحظ بشهرة كشهرة جوتزولي أو زميله المعاصر له جيرلاندايو في تصويرهما للمواكب والمهرجانات والعروض إلا أنه كان عضواً من أعضاء جماعة "النزعة الإنسانية" ذوي الثقافة الرفيعة التي كانت تستظل بلواء لورنزو العظيم راعي الأدباء والشعراء والفلاسفة والفنانين في تلك الحقبة. وما أكثر ما كان الشاعر بولتزيانو والفيلسوفان مارسيليو فيتشينو وبيكودللا ميراندولا يتناولون في اجتماعاتهم الأساطير الكلاسيكية بالحديث والتنقيب، جاهدين في أن يوفقوا بين الفلسفة الوثنية والعقيدة المسيحية. من أجل هذا عكفوا على دراسة "محاورات أفلاطون" و"تاسوعات أفلاطون" ونظرية الموسيقى الإغريقية.
وهم إلى جانب اهتمامهم بفن التصوير المعاصر لم يغفلوا الرجوع إلى الكتب القديمة التي تتحدث عن النحت والتصوير والعمارة، وكان لهذا الجو الوثني أثره في الكثير من تصاوير بوتتشللي. ولعل لوحة "فينوس ومارس" (لوحة 264) كانت تعبيراً طريفاً عن امتزاج عبقرية الفن المسيحي بعبقرية الفنّ الوثني الكلاسيكي، وهي صورة رامزة لقصّة حب كانت شائعة حينذاك. وتحكي هذه القصة أن جوليانو ده مديتشي قد أخذ ينازل آخر وهما ممتطيان جواديهما وحاملان رمحيهما للظفر بإعجاب سيمونيتا زوجة ماركو فسبوتشي ابن عم أمريكو فسبوتشي الجغرافي الفلورنسي الذي أطلق اسمه على العالم الجديد الذي اكتشفه كولومبوس. وكانت لسيمونيتا الشقراء شهرتها في ذلك العصر بجمالها الفاتن وبما طبعت عليه من وداعة ورقّة ولطف آسر وذكاء وقّاد، وقد رشّحها هذا كله إلى أن تكون عضواً من أعضاء الأكاديمية الأفلاطونية الحديثة، وإذا جوليانو يغرم بها على حين أخذ لورنزو ينظم فيها شعره، وكذا تدلّه بها شاعر آخر هو بولتزيانو فوصف جمالها في إحدى قصائده، وإذا بوتتشللي يصوّر لها هو الآخر أكثر من صورة خالدة. وإذا كانت نظرة كل واحد من هؤلاء إلى سيمونيتا تختلف باختلاف تكوينه إلا أنهم جميعاً كانوا مجمعين على أنها "المثل الأعلى الأفلاطوني" بعد أن غزت قلوبهم واحتلّت أحاسيسهم، على غرار ما كان من دانتي لبياتريس وما كان من بترارك للورا، وقد كتب لجوليانو النصر في هذه المبارزة وقدّمت له سيمونيتا نوط الفوز.
وعلى الرغم من أن الصورة تضم فيها تضم زمرة من صبية جان الغاب "الساتير" وهم يلهون، فهي تتسم بالحزن والأسى لمصرع جوليانو نتيجة مؤامرة دبّرت ضده بعد سنتين من اليوم نفسه الذي ماتت فيه محبوبته سيمونيتا، وكان مصرع جوليانو وموت سيمونيتا قبل أن يفرغ بوتتشللي من هذه اللوحة. ولعل في شكل هذه اللوحة الذي يشبه التابوت ما يفسر ما كان يسود الموقف من أسى وهم، ويقال إن هذه الصورة قد عثر عليها في مخدع عرس. ونرى بوتتشللي هنا يصور بوتتشللي في هيئة الإله مارس وقد استلقى مسترخياً بعد أن خاض معركته في سبيل فينوس يوصفها المثل الأعلى للجمال والتي مثّلها الفنان في هذه اللوحة في صورة سيمونيتا.
وما من شكّ في أن أشهر ما تركه بوتتشللي من أعمال هو لوحته التي تصوّر "الربيع" Primavera (لوحة 266- 267 أ، ب) التي تقدّم الدليل على صلته الوثيقة بالأوساط الأفلاطونية المحدثة، فلقد كانت صورتا الربيع ومولد فينوس بلا نزاع من وحي لورنزو ده بييرو فرنشكو ده مديتشي ابن عم لورنزو العظيم. وكان فيتشينو قد نصب نفسه أستاذاً لهذا الشاب الموسر الواعد. ونجد في إحدى رسائله إلى تلميذه نصّاً يصوّر لنا هذا الفكر الرمزي المرهص بالمنزلة التي ستشغلها فينوس في أذهان الناس طوال الخمسين سنة التالية، إذ نصح الأستاذ تلميذه بأن "يضع صورة فينوس دائماً نصب عينيه متخذاً إياها رمزاً للإنسانية Hamanitas. فلا يمكن تصور الإنسانية إلا حورية فاتنة أنجبتها إلهات السماء وربّات الأرض من عشيقهن جوبيتر كبير الآلهة، روحها وذهنها هما التراحم والمحبّة Caritas، وعيناها هما الكرامة والكرم، ويداها هما الإغداق والجلال، وقدماها هما الجمال والحياء… وهو ما يجمع بين الاعتدال والأمانة والفتنة والروعة، فما أبدع هذا الجمال الرقيق". وما لبث بيكو دللا ميراندولا أن حذا حذو فيتشينو فكتب هو الآخر يقول: "وترافق فينوس وصيفات صبايا هن ربّات الحسن اللاتي يمكن ترجمة أسمائهن إلى لغتنا بالخضرة والبهجة والروعة. وما هؤلاء الربّات إلا صفات ثلاث يتميز بها الجمال الأمثل".
تلك كانت التراتيل التي أنصت ساندرو المصوّر الشاب إليها وهي تتردّد على ألسنة الفلاسفة الملتفّين حول راعيه. ومع أنه من المؤكّد أنه لم ينفذ إلى أبعد من إيحاءاتها الجلية إلا أنها لا شك مسّت ما كان يجول بخاطره من رؤى للجمال الرهيف استقاها من النقوش البارزة على التوابيت الكلاسيكية، ومن الرسوم التي أعدها الفنانون المعاصرون للآثار والمنحوتات القديمة التي تداولتها الأيدي في المراسم والمحارف الفلورنسية. ومن هذه المصادر جميعاً انتهى بوتتشللي إلى صياغة رؤيته الشخصية الفريدة للجمال الجسدي، وهي "ربات الحسن الثلاث" في لوحة "الربيع" التي تسبق لوحة "مولد فينوس" بأعوام عشر. ويلفت انتباهنا أن بوتتشللي قد اختار البدء بالعودة إلى العالم الكلاسيكي من خلال "ربات الحسن" التي أباح كتاّب المسيحية عريها - كانت قدّمت - بوصفه رمزاً للصدق والإخلاص على حين أدانوا عري فينوس. ونحن لا ندري أي التمثيلات الفنية الكلاسيكية لربات الحسن هي التي وقع عليها بصره إلا أنه من غير المشكوك فيه أنه قد نفذ إلى الروح المتأغرقة التي قدمت هذا التكوين الفذّ مدركاً أن ربات الحسن يشكلن صفاً من الراقصات بثّ فيهن الحركة التي تؤجّجها إيقاعات الأردية الشفّافة. وهكذا عاد الجمال العاري إلى الظهور في عصر النهضة على صورته التي ظهر بها في اليونان ويكاد ينطقه فتنة وجمالاً الرداء الشفاف الواشي . وما من شك في أن بوتتشللي في تشكيله لخطوطه المنسابة المتدفقة قد تأثّر بأشكال المايناديس التي زخرت بها الزخارف المتأغرقة في وضعاتهن التي ترفّ بالإيقاع المتناسق وبأجسادهن التي تتأوّد بنشوة الوجد وبثيابهن التي تمور بالأطواء الشفافة. ولكي ندرك مدى الوثبة التي خطاها بوتتشللي يكفي أن نلقي نظرة على صورة لربات الحسن من وجهة نظر العصور الوسطى (لوحة 268) حيث نرى سيّدات ثلاثاً يبدون فزعات وراء ملاءة تحجبهن طيّاتها المستوية، وقد ظهرت رؤوسهن وأكتافهن، ومنها يتضح أنهن لم يكنّ على الاحتشام التام المأثور عن ذلك الزمان. فإذا عدنا إلى ربّات بوتتشللي رأينا الأجساد مكشوفة بغير حجاب وإن تشكّلت في لحن من الجمال السماوي المنطوي في الوقت ذاته على لمسة إنسانية هي التي تميّز ربّات بوتتشللي عن ربات الحسن الكلاسيكيات. فوجوه ربات الحسن في لوحة بوتتشللي وجوه واقعية، وكل وجه منها يمثّل شخصية على حدة، كما أضاف جمال أجسادهن مزيداً من إثارة الوجدان، فنحسّ حين نتطلع إلى أجسادهن وما يغشّيها من كمال وجلال أنهن خالدات، ونحسّ حين نتطلع إلى وجوههن الإنسانية أنهن إلى فناء.
وهكذا تجمع لوحة الربيع بين فكر العصر الكلاسيكي وفكر العصور الوسطى بعد أن زاوج بوتتشللي بعبقريته بين مفهومين يستعصي التوفيق بينهما. وكما وضع فلاسفة المذهب الإنساني معارفهم الكلاسيكية في إطار من الفكر السكولائي، كذلك وضع بوتتشللي ربّاته اليونانيات الرشاقة في إطار النسجيات المرسّمة القوطية. وكما ضحّى فلاسفة الأفلاطونية المحدثة بالمنطق المجرد في سبيل تقديم تفسير مرن للرموز، كذلك لم يحاول بوتتشللي أن يمثّل لنا صلابة الأجسام أو ما تشغله من فراغ، ولكنه قدم كل شكل جميل مستقلاً بذاته شأن من يقدّم الجواهر فوق وسادة من المخمل مؤلّفاً بينها تأليفه بين الرموز بما تتمتع به كل منها من سمات زخرفية جلية. فإذا تلفّتنا إلى بقية شخوص اللوحة وجدناها غير كلاسيكية الطابع، ففينوس "الخفرة" في ردائها نرى يدها مرفوعة على نحو ما يفعل الملك جبريل وهو يرفع يده مبشّراً العذراء بمولودها، كما أن الفتاة التي تمثّل "الربيع" في فراره من ملاحقة "ريح الغرب" القارصة هو تمثيل للجسد العاري القوطي الطابع، ومع هذا فقد ساوق بوتتشللي بين هذه القوطية والشكل الكلاسيكي لربات الحسن من خلال الإيقاع الذي يغمر اللوحة بأكملها. ولعل بوتتشللي قد فطن إلى أنه لن يستطيع تكرار وضع الطرز المختلفة جنباً إلى جنب فيما سيحاوله بعد ذلك، ولذا اتجه في لوحته الوثنية الشاعرية العظمى التي رسمها كما ذكرت بعد عشر سنوات من تصوير لوحة "الربيع" نحو تكوين فني أوغل في الكلاسيكية.
وتختلف الروايات في تفسير هذه اللوحة، فيذهب البعض إلى أن الإله الذي يزفر الهواء بفمه إلى يمين الصورة هو زفيروس ربّ ريح الغرب، وأن الحورية التي تذروها هذه الريح بين يديه هي كلوريس، وأن المرأة المغشّاة بالزهور هي الربّة فلورا - وهي في حقيقة الأمر سيمونيتا التي قضت نحبها في إبريل 1476 وهي نفس السنة التي بدأ بوتتشللي يرسم فيها هذه اللوحة - وأن ربات الحسن الثلاث من اليمين إلى اليسار هن بولكريتودو [الجمال] وكاستيتاس [ العفّة] وفولويتاس [المتعة]، وأن الشاب الواقف إلى اليسار هو الإله مركوريوس، أما الشخصيتان اللتان تتوسطان الصورة فهما لفينوس وكيوبيد. وثمّة رأي آخر ينادي به عالم الجماليات جومبرتش وهو أن المرأة الكاسية في وسط الصورة هي "فينوس هيومانيتاس" ربة الاعتدال والأمانة والفتنة والبهاء، على حين يذهب المؤرّخ الإيطالي روبرتو سالفيني إلى أن لوحة الربيع هي صورة رامزة لمملكة فينوس حيث العالم المثالي الذي تتعانق فيه الغريزة مع الطبيعة من خلال زفيروس الشهواني وفلورا بشارة الربيع، بينما ترفع الحضارة والثقافة من شأنهما من خلال فينوس هيومانيتاس بمعاونة ربات الحسن، كما يجسّد الإله مركوريوس النصيحة الصادقة. ويستند البعض الآخر إلى ما جاء في كتاب "التقويم" Fasti للشاعر أوفيد من أن زفيروس كان يطارد الحورية كلوريس، وما كاد يلمسها حتى تساقطت منها الزهور مع أنفاسها لتتحول إلى "فلورا" باقة الربيع، وأن هذا الثالوث الذي يمثّل الجمال [فلورا] ينبثق من اجتماع الطهارة [كلوريس] والعاطفة المحمومة [زفيروس].
وإذا أخذنا بالتفسير الأول لهذه اللوحة بدت لنا ربّة الحسن كاستيتاس [العفّة] وكأنها على وشك أن يصيبها سهم كيوبيد المعصوب العينين، وقد توسّطت بولكريتودو إلى اليمين وفولوبتاس إلى اليسار، وهما يقودانها لتلقينها أسرار الحب، على حين تضبط فينوس إيقاع الرقصة كيما تواكب حركاتهن اللحن الموسيقي. أما ميركوريوس الذي يضطلع إلى جوار مهامه العديدة بريادة ربات الحسن فيستدبر هذا العالم متّجهاً صوب عالم الآلهة، وهو يمس السحب التي تغشّي موطن الآلهة بعصاه. وثمّة تفسير أخير لا يستقيم مع المنطق وهو أن المشهد يمثّل تحكيم باريس بين الربات فينوس وجونو ومنيرفا، وأن باريس يمد يده ليقطف برتقالة فسّرها فلاسفة النهضة المهتمون بالميثولوجيا بأنها إحدى تفاحات هسبريديس الذهبية التي يقدّمها باريس إلى فينوس اعترافاً بتفوّقها جمالاً على الربتين الأخريين.
ومن الواضح أن اللوحة تعبّر جليّاً عن عصر النهضة المشغول بكل ما هو حسّي، حتى ليمكن القول إن بوتتشللي كان عاشقاً للزهور وأنه حين يرسم كان يعزف ويرقص، فخطوط الأرابيسك المتأوّدة الرهيفة التي شكّل بها شخوصه أمام خلفية من الأشجار الخضراء، ووضعات شخوصه الواضحة بل وحركات أذرعهن وسيقانهن تنطوي على قيم لحنية راقصة، على حين يتجلّى حماسه لحركة إحياء الحضارة اليونانية الرومانية في الموضوعات التي اقتبسها عن المؤلفين القدامى، ومن ناحية أخرى يمكن أن نعزو هذه الصورة بالمثل إلى فن العصور الوسطى، ففينوس هيومانيتاس لا نرى فيها نزوات الوثنية وعبثها وتثنّي عودها بل على العكس من ذلك تبدو كما تخيّلها بوتتشللي في براءة العذراء وطهرها وانطوائها على نفسها وقد توسّطت العقد الذي كوّنته الأشجار الخضراء من ورائها وكأنها مريم البتول تنتصب في كوّة بإحدى كنائس العصور الوسطى. ولو زوّد الفنان ربّات الحسن بالأجنحة لبدون ملائكة على غرار مصوّرات العصور الوسطى، كما يمكن أن نعدّ زفيروس وهو يطارد كلوريس شيطاناً يطارد روحاً بلغ منها اليأس مداه. وحتى إذا ما استبعدنا هذه الملامح المسيحية، فثمّة عناصر أخرى يمكن أن تنتمي إلى إيقونوغرافية العصور الوسطى، فقد يكون هذا المشهد إحدى الحدائق الرمزية التي طالما طالعنا بها شعراء القرون الوسطى المتغنون بالحب الرفيع والهوى العذري، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن عشق الزهور والربيع والرقص والموسيقى لم يكن وقفاً على عصر النهضة وحده. فإذا كان هذا التكوين الفني الآسر يوحي لنا بأفاريز النقوش البارزة الكلاسيكية فهو يوحي بالمثل بنسجية جدارية مرسّمة من العصر القوطي، فإذا نحن بهذا وذاك أمام إنجاز رائع وفّق بين أخيلة العصور المختلفة. على أنه ينبغي أن نلتزم الحرص فلا نسرف في تصوير فحوى هذه اللوحة تصويراً درامياً محاولين افتعال صراع روحاني في تصوير لا يعدو أن يكون تمازجاً بالغ الرهافة بين أسلوبي الفن القديم والجديد. وثمّة ما يقطع بأن "لوحة الربيع" سواء اعتبرناها لوحة جامعة بين العصرين القوطي والنهضة أو بين المسيحية والوثنية قد رسمت خلال حقبة كان الصراع فيها يراود نفوس الكثرة من المتديّنين بفلورنسا، فلا يمكن افتراض أن حركة التطهّر الدينية التي قادها الراهب سافونارولا قد نشأت من العدم.
وفيما بين ظهور لوحة "الربيع" ولوحة "مولد فينوس" (لوحة 269- 270) قضى بوتتشللي فترة من الزمن في روما يرسم بعض اللوحات الجدارية بمصلّى سيستينا. وعلى حين كانت الآثار الكلاسيكية في فلورنسا محدودة في بضع مقتنيات خاصّة، حفلت بها أرجاء روما وانبثقت تماثيل العراة المطمورة من جوف الأرض بلا خشية رقيب، وأتيح لبوتتشللي الذي كان قد نفذ بعيداً إلى الروح الإغريقية أن يكتشف نماذج لفينوس تختلف كل الاختلاف عن الكاهنة الرقيقة التي رسمها في لوحة "الربيع" وإن لم تقل عنها مثالية. لذلك فعندما طلب منه راعيه لورنزو دي بييرو فرنشسكو بعد عودته إلى فلورنسا أن يصور قصيدة مبارزة الفرسان Giostra لبولتزيانو التي تصف أبياتها انبثاق الإلهة اليونانية من أعماق البحر كانت صورة جسدها العاري الذي تخيّله واضحة في ذهنه كل الوضوح.
ومن هنا نتبيّن أن لوحة مولد فينوس كان مقصوداً بها الإشادة بالعصر الكلاسيكي حتى غدا المفهوم الطاغي عليها أوغل كلاسيكية من لوحة الربيع، فبدلاً من تكوينات النسجيات المرسّمة التي تتناثر شخصياتها زخرفياً أمام خلفية قوطية حافلة بالخضرة والأشجار والنباتات، نجد أن لوحة فينوس شديدة التركيز، تبرز شخوصها وكأنها لوحة من النقش البارز. فإذا بوتتشللي يصوّر فينوس وقد تفتّحت عنها صدفة الماء الوردية الطافية فوق سطح الماء يخفق بها عصف الريح المنبعث من فمّي زفيروس [ربّ الريح عند اليونان وبشير الربيع عند الرومان] وزوجته وتدفعها صوب الشاطئ الذي وقفت عليه إحدى حوريات "الهوراي" ربّات الطبيعة وبنات زيوس تنتظر وصول فينوس وفي يدها رداء مزركش بالزهور لكي تستر بها جسد فينوس العاري. والراجح أن بوتتشللي قد تأثر أيضاً بما أشارت إليه بعض أبيات قصيدة بولتزيانو إلى صورة "فينوس أنادوميني" من تصاوير أبلّليس مصور الإسكندر الأكبر التي لم يرد لها ذكر إلا في المراجع الأدبية، هذا إلى ما حفظته لها بعض النقوش البارزة القديمة. والمكان الأسطوري الذي حطّت عليه فينوس هو بورتو فينيري أي مرفأ فينوس، ومن الغريب أن هذا المكان كان مسقط رأس سيمونيتا. والملاحظ أن بوتتشللي قد حاكى وضعته لفينوس في هذه اللوحة وضعة تمثال فينوس مديتشي الكلاسيكية (لوحة 80) الذي كانت تقتنيه أسرة مديتشي في قصرها والمحفوظ الآن بمتحف أوفتري، غير أنه حاكى في وجهها أيضاً وجه سيمونيتا. واختار بوتتشللي للوحته الألوان الهادئة لتناسب هذا الموضوع الكلاسيكي، وإذا وضعات الشخوص باستثناء فينوس جانبية، وإذا الثياب رهيفة متطايرة لتوحي بالخفة والحركة. ومما يلفت أنظارنا بشدة رأس فينوس وشعرها الذهبي، كما تقودنا قسمات الوجه إلى الشخصية المقصودة، وهو ما نفتقده عادة في المنحوتات الكلاسيكية. ويخيل إلينا لدقّة الخطوط المحوّطة وجلائها أننا أزاء لوحة من النقش البارز. ولعل أهم ما في اللوحة من ملامح تعبيرية هي تلك الخطوط الراقصة الشبيهة بتصميمات راقصات البالية وما حملته من إيقاعات متناغمة.
ولعل لوحة "الافتراء" (لوحة 272) تمثّل لنا بلوغ الفنان الذروة في تفسيره العقلاني للأفكار الكلاسيكية، وقد تكون محاولة أخرى من جانبه لتصوير لوحة مفقودة لأبلليس وصفها الأديب الروماني لوكيانوس وترجمها إلى الإيطالية ليون باتستا ألبرتي المهندس المعماري المتعدد الثقافات. وما من شك في أن حديث الافتراء كان ممّا أثار الجدل بين الأدباء الملتفّين بلورنزو وخاضوا فيه كثيراً. وإذا أنعمنا النظر في هذه الصورة الرامزة المتخيلة التي تتناول فكرة العدالة وانتقلنا بالطرف من اليمين إلى اليسار، رأينا إلى أقصى اليمين كرسيّاً قد جلس عليه حاكم من الطغاة تحيط به امرأتان تمثلان [الجهل] و[الخرافة] وكأنهما مشيرتان تهمسان في أذنيه الطويلتين طول أذني حمار بما هو مريب، ووقف أمامه رجل رثّ الثياب هو رمز [الحسد] يمثّل المدّعي، ومن ورائه فتاة يجذبها تمثل في حضرة القاضي وبيدها مشعل، وتجذب هي الأخرى بيسراها شاباً من شعره بمثل الضحية البريئة وقد رفع يديه إلى السماء يائساً كالمتضرع، وثمّة فتاتان [الخيانة] و[الخداع] تصفّفان شعر المرأة التي تمثل [الافتراء]، أما ذلك الشخص الواقف إلى اليسار ذو القلنسوة السوداء والمتّشح بثياب الحداد فيمثل [ الندم] وقد أشار بكلتا يديه إلى المتهم الذي إلى يساره وهو مقبل بوجهه على امرأة تمثّل [الحقيقة المجردة] وقد رفعت هي الأخرى يدها إلى السماء متضرّعة.
وعلى الرغم مما ازدحمت به الصورة من كثرة الإيحاءات الرامزة فقد توّجت بالنجاح، كما تتميّز اللوحة بسطحها المصقول، فلا تزال ألوانها التي مرّ عليها ما يربو على قرون أربعة ونصف ساطعة متألقة، وينطق توزيع الشخوص في الإطار المعماري بالحسّين التصويري والرمزي على السواء، ومع أن الثياب الخفاقة تعبر عمّا في الموقف من اضطراب إلا أن بوتتشللي استطاع أن يحصر هذا في حيّزه المناسب. وعلى الرغم من أن هدف الفنان من وراء المبنى الفسيح البديع ذي النسب المتناسقة هو أن يمثل بازيليكا رومانية، فقد بدا أقرب إلى الطراز المعماري الفلورنسي إبّان عصر النهضة، ومع ما تنطوي عليه اللوحة من نقوش بارزة وتماثيل في الكوى قائمة، فهي تبدو أقرب إلى الحسّ الفلورنسي منها إلى الفن الكلاسيكي القديم.
وما إن أطل عام 1500 حتى ضاق جمٌّ غفير من أهل فلورنسا ذرعاً بمظاهر الترف والمهرجانات التي كانت من الوثنية بمكان، وأخذ المتديّنون يخشون عاقبة هذا الترف ومضى الوعّاظ ينعون على هؤلاء ما ساد التصاوير والتماثيل من تعرية للأجساد البشرية وكذا الحوريات والآلهة الوثنية التي بدت هي الأخرى عارية، وكان أشد الرهبان عنفاً وضراوةً هو سافونارولا، الذي انبرى مندّداً بفساد الكنيسة وعبث كرادلتها وبفسق البابا ومجونه، منذراً الكفرة الفجرة بجهنّم لهم مرصاداً لابثين فيها أحقاباً، والذي انبرى مندّداً بفساد الكنيسة وعبث كرادلتها وبفسق البابا ومجونه، مُنذراً الكفرة الفجرة بجهنّم لهم مرصاداً لابثين فيها خالدين، وما لبث أهل فلورنسا في عام 1497 أن جمعوا كل أسباب الإسراف في اللهو أكواماً في هرم ضخم وأشعلوا النار فيما سمّاه سافونارولا "أوهام الغرور"، لكأنه فيما دعا الناس إليه يردّد قول الحق تعالى في كتابه الكريم: "اعلموا أنّما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينةٌ وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّاً ثم يكون حطاماً، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [الحديد20]"، وبهذا قضى على شطر كبير من التراث الفني لعصر النهضة من صور وتماثيل وما يتصل بالمهرجانات من شعر مستعار ولحىً زائفة وطلاء للوجوه وحلي ومرايا وأثاث وثياب مطرزة من الحرير والمخمل وغيرهما.
وبدأ بوتتشللي الذي كان على الدوام شخصية غارقة في التأمّل الباطني يحس هو الآخر وخز الضمير، فأحرق جملة من تصاويره ذات الشخوص العارية، وانتظم بين أتباع سافونارولا، وقد تجلت في أعماله اللاحقة كما سنرى صوفيته واهتماماته الدينية العميقة. ومن الغريب أنه سرعان ما أُخذ الراهب سافونارولا بما ادّعاه، وإذا هو الآخر يغدو ضحية "أوهام الغرور" فشاركها مصيرها وأُحرق بالنار بعدُ وسط ميدان السنيوريا بفلورنسا، غير أن عظاته ذات الأثر العميق بقيت يتردّد صداها، وهكذا مضى عصر النهضة الفلورنسية وأطل على الوجود عصر جديد في ميداني الفن والفكر، وبعد أن كان تاريخ الفن يعرض للأساليب والآراء والأفكار الفنية التي أسهم فيها عدد من الفنانين فحسب، غدا بعد القرن الخامس عشر يتميّز بسير العباقرة من عظماء الفنانين.
وفي عام 1490 عهد لورنزو إلى بوتتشللي أن يجلو "الكوميديا الإلهية" لدانتي في جملة من الرسوم وفيرة. وعلى غرار الإغريق القدامى الذين عكفوا على دراسة ملاحم هوميروس، انكبّ أهل فلورنسا على دراسة "الكوميديا الإلهية" لدانتي ليلقنوا عنها مبادئ المعرفة وقواعد السلوك وأسس الوعي الديني. وما من شك في أن السنوات التي قضاها بوتتشللي في الاضطلاع بهذه المهمة كان لها أثرها القوي في فكره وأسلوبه ورسومه التي جمّل بها هذا الكتاب، والتي لم يبق منها مع مرور الأيام إلا ما ينوف على مائة صورة نحس فيها الشفافية الرقيقة رقّة النسيم، وكانت هذه هي الصفة التي تميّزت بها أعماله بعد (لوحة 273- 274).
ولقد مّرت ببوتتشللي في تلك الآونة تجربة مريرة ما لبث أن تخطاها، إذ كان راعيه وصديقه لورنزو يضمر العداء للراهب سافونارولا، بينما كان هو يشايع الراهب فيما يقول به من ضرب على أيدي اللاهين ومع عام 1497 قدّر لصديقه لورنزو أن يُنفى خارج فلورنسا، وما إن كان عام 1498 حتى قُدّر لسافونارولا أن يموت حرقاً كما أشرت قبل (لوحة 275)، وأصبحت جيوش فرنسا تهدّد استقلال الدويلات الإيطالية، وانتهت إيطاليا في عام 1500 إلى أن أصبحت ترزح تحت أعباء من الفوضى ثقال، وعمّ الناس شعور بدنو الغاشية، وما دار بخلدهم أن يتطلعوا إلى منقذ يقودهم إلى برّ السلام على غرار ما كان مع مبعث عيسى عليه السلام، فلقد كانت الدنيا بمتاعها هي شغلهم الشاغل. وما من شكّ في أن هذه الظلمة التي أضلت الوجود كانت من الحلكة بمكان حتى أملت على بوتتشللي تلك النورانية المشرقة التي نحسّها في لوحته الرائعة التي رسمها إثر تلك الغمّة عن "ميلاد المسيح" (لوحة 276- 277) التي أخذ فيها بوتتشللي برأي الراهب سافونارولا المندد بالواقعية.
والصور عجيبة في تكوينها الفني، إذ تحتشد بتعرّجات حادة الزوايا وبخطوط مائلة تلتقي عند القمة، ونرى المِزود الذي ولد فيه المسيح تحيط به جدران صخرية ساندة تمتلئ هي الأخرى بشقوق مائلة تنعقد رؤوسها فوق هامة العذراء، وليس ثمّة ما يخرج بنا عن تلك الحدّة البادية في الصورة غير أولئك الأشخاص الستة الماثلين في أمامية اللوحة، منهم ملائكة ثلاث جاءوا يحملوان البشرى وقد بدوا تلامس جباهم جباه ثلاثة أشخاص تطايرت عنهم شرائط خفاّقة مسطورٌ عليها ما يشير إلى أنهم الأبرار المطهّرون. ولا تلبث هذه اللمسة الحادة أن تذوب عند سقيفة القصبات الهشّة التي تظل المزود فإذا الزوايا الحادة التي تشير إلى القلق وعناء الوضع وقسوته قد تلاشت، كما يخفّف من الانتقال المفاجئ من الإيقاع الحاد إلى الإيقاع اللطيف جملة من الأشجار تبدو من حولها في سماء اللوحة هالة ذهبية تلفّ بين طرفيها حشداً من الملائكة محلّقين تغشّيهم شفافية التجلّي والتنزّه عن آثار البشر فإذا العين تقرّ بهذا النقاء والطهر السماويين.
وتضم هذه اللوحة إلى متعتها الفنية متعة أخرى أدبية، إذ هي زاخرة بطلسمات ورموز لا يمكن الاهتداء إلى كنهها إلا بما نعرفه عن الفنان وعن العصر الذي أظله. وفي اللوحة كتابة باللغة اليونانية تنتظم كلاماً كثيراً وتعدّ جزءاً مكمّلاً للصورة. وما نعرف أن بوتتشللي كان على دراية باللغة اليونانية، ولكن الغريب أن هذه الكلمات بخط يده، يؤكد لنا هذا توقيعه الذي مهر به هذه الصورة، ولعلها المرة الوحيدة التي رأينا له هذا التوقيع، وهو ما يدل على ما كان لهذه اللوحة من شأن عنده. ومجمل هذا الكلام المكتوب يتضمن عبارة فيها شيء من سفر الرؤيا على النحو التالي: "أنا ساندرو قد صوّرت هذه اللوحة مع نهاية العام خمسمائة وألف، وكانت إيطاليا عندها تئن تحت أرزاح المتاعب". ويُتبع هذا بقوله: "وبعد زمن تنبأ به القديس يوحنا سوف يُصفّد الشيطان بالأغلال وسنراه تحت موطئ الأقدام"، والغريب أن ليس في الصورة رسم لهذا الشيطان الذي مر ذكره فيما كتب. ولعلّ تلك الشياطين الأربعة الدقيقة الحجم والمطعونة بالحراب والمتفرقة في أمامية الصورة هي ما أراده بإشارته إلى الشيطان، وعلى الرغم من أن ما ذكره نقلاً عن سفر الرؤيا لا يتفق ومبناه لفظاً إلا أنه يتفق معه مضموناً. وإنا لنتساءل ما الذي دفع بمصور لوحتي الربيع ومولد فينوس المتفقتين والواقع إلى أن يشرد بخياله فيضمّن هذه اللوحة تلك العبارات الشاطحة. وقد نعزو هذا إلى أنه منذ أن شبّ كانت تتساوره شطحات روحانية غاية في العنف على حين كان غيره من الفنانين المعاصرين له معنيين بتصوير ما يتصل بالأجسام من حركة، وكان بوتتشللي إلى هذا تختلجه عواطف مشبوبة بالجمال الجسدي.
وإذا علمنا أن فلاسفة المذهب الإنساني الذين منهم استوحي أن آلهة الأوليمبوس الوثنية ومن بينهم فينوس الفاتنة قد يكونون كذلك رمزاً للفضائل المسيحية أدركنا كيف استجاب بوتتشللي مرحّباً بما أدلوا به من حجج، ولكنه ما كان فيما نعلم وثنياً أبداً. ولم يلتزم في هذه اللوحة بالنسب أو بقواعد المنظور، فبدت الشخوص المتلامسة في أمامية الصورة أصغر حجماً من شخوص المجموعة الرئيسية في منتصف اللوحة التي تفيض على ما حواليها. ونراه حين صوّر العذراء وطفلها صورها في أحجام تباين أحجام من كانوا دون هؤلاء شأناً، كما كانت عليه الحال قديماً عند المصورين البيزنطيين. وليس ثمّة ما يدل على أنه كان معنياً بما يشير إلى العمق، فإذا هو يضع المزود في منتصف اللوحة في مواجهة المشاهد وكذا صوّر الشخوص الستة في أمامية اللوحة رمزية في غير تجسيم ولا تمثّل الواقع، على حين لم يجنح إلى هذا الأسلوب في تصويره للفردوس، فلم يحاك الأسلوب البيزنطي في تمثيله للملائكة بل نكاد نراها إغريقية الأسلوب قلباً وقالباً بوضعاتها التي تفيض بالإيقاع المتناسق، وبأجسادها المتأوّدة وجداً، وبرؤوسها المائلة للوراء، وبثيابها التي تموج بالأطواء الشفافة، حتى لتبدو والملائكة وكأنها حوريات المايناديس كاهنات باكخوس الحسناوات اللاتي أبدعها كاليماخوس بالنقش البارز خلال القرن الرابع قبل الميلاد. وإذا كان بوتتشللي قد تأثّر بتعاليم سافونارولا في الزهد الصارف عن الكشف عن الجمال الجسدي، إلا أنه عاش يؤمن الإيمان كله بأن إبراز مثل هذا الجمال جدير بأن يشيع في تصوير كل ما هو ملائكي أو ينطوي على الورع والطهر، وهو ما فعله في رسومه للكوميديا الإلهية، فلم يستطع أن يتحلّل من الحسية التي انبنت عليها موهبته في الرسم، ولا زالت تلك الأذرع الرقيقة اللطيفة التي صوّرها تشير إلى ما كان يحسّه نشوة وهزّة طرب خلال معالجته للرسم. فلقد بدت الرقصات البريئة للأجساد الكاسية على الرغم من حسّيتها المنقوصة أقل الرقصات حسية في تاريخ فن التصوير، إذ غشيتها نوارنية ملائكية، مما جعلنا نشاركهن الرقص جسداً وروحاً في آن، فإذا نحن نتمايل مع خفقات أطواء الثياب وارتجافات الأجنحة وهزّات سعفات النخيل، وإذا نحن نكاد ندرك أنغام الموسيقى الربانية بحواسّنا القاصرة.
ومع أن لوحة "ميلاد المسيح" جاءت على النهج العتيق مطّرحة كل ما هو مادي خالص، فهي على الرغم من أنها ليست من الأناقة بمكان، قوية التعبير نابضة بالحيوية متّزنة الألوان متنوّعتها مما يضفي عليها أثراً بالغاً. ففي أمامية الصورة تكثّف العباءات الحمراء نضرة العشب الأخضر الذي يكسو الأرض، كما أن التباين الدقيق بين اللونين الرمادي والبني اللذين بدت فيهما ثياب الرعاة زاده تألّقاً ثوب الملاك المرافق الناصع البياض. وإلى اليسار بدا ثلاثة من ملوك المجوس وإن لم يكن ثمّة ما يُستدل به على ملوكيتهم غير تلك الألوان الرفّافة التي أضفاها عليهم المصور. وتبدو العذراء في بؤرة اللوحة في عباءة زرقاء داكنة كما يبدو الصخر والأتان في لون رمادي، ولعل مما يشير إلى ذكاء الفنان اختياره للموضوعات التي يصورها ثم تلك التصميمات التي بنى عليها تصاويره حتى ليستطيع المرء أن يستخلص من كل لمسة في الصورة معنى ننفذ منه إلى ما كان يدور في مخيّلته.
وما من شكّ في أن صور بوتتشللي تخضع جميعها لمنطق آخر غير منطق العقل هو الذي أكسبها ذلك الأثر الذي يأخذ بالألباب (لوحة 278، 279). ويختلف هذا المنطق باختلاف الروح التي تنبض في كل لوحة، أتمثّل تلك الروح المجتمع أم روح العصر أم روح فرد واحد؟ ذلك أن هذا المصوّر ينقلنا في كل مرة إلى عالمه المرئي الخاص، ولكل فنّان عالمه المرئي الذي يظلّه. فنجد مثلاً عالم بوتتشللي على النقيض من عالم روبنز، فهذه الإشراقة التي هي أشبه ما تكون بإشراقة الصبح عند بوتتشللي على النقيض منها الضوء الساطع عن روبنز، ونجد لين الأشكال عند بوتتشللي تقابله القوة والفتوة عند روبنز، وعلى حين نجد عند بوتتشللي الألوان وردية أو زرقاء أو خضراء نجدها حمراء قانية عند روبنز. وكذا نجد ما عليه الفتيان والفتيات من رشاقة عن بوتتشللي يقابلها عند روبنز صور لأطفال انتفخت أوداجهم ولصبية غلاظ الأجسام. وعلى حين نرى الزهور متفتّحة الأوراق متناثرة والأشجار متمايلة بأكملها عن بوتتشللي نجد الثمار تتدفّق منها عصارتها عن روبنز. وبينما نرى فينوس تدفعها النسمات الرقيقة نحو الشاطئ، والملائكة عليهم غلالات تتطاير أطرافها مع هبّات الريح عن بوتتشللي نجد العباءات الثقيلة التي تخفق في شدّة عند روبنز. وهكذا نجد تخالفاً واسعاً بين عالمي هذين المصوّرين، يبدو كل منهما عالماً غريباً عن الآخر. ولا غرابة فلكل فنان عالمه وطابعه وميزاته يملي عنها جميعاً فإذا عمله يخرج متأثّراً بهذا كله مخالفاً لأعمال غيره، فهو يفرغ فيه ذاتيته أجمع وأحلامه وأخيلته التي هي أشبه ما تكون بأخيلة الشاعر.